قصة من الحياة.. “صمتٌ وإبتسامة”

جريدة مصر المحروسة

قصة من الحياة.. “صمتٌ وإبتسامة”

بقلم/ عبدالفتاح حسين والى

رن هاتفى وأنا أجالس مريضاً نفسياً فى عيادتي، وعادةً ما أجعل هاتفى صامتاً، لئلا ينزعج مريض من صوت الهاتف ، وعرفت ان المتصل أحد أصدقائى ، فأكملت جِلستى مع مريضي.

 ثم هاتفت صديقي، وقبل أن يبدأ حديثه معي، بادرنى بالإعتذار لأنه يعلم أننى فى وقت العمل بالعيادة، وأستأذنى أن يأتى الىّ ، فأذنت له، ويبدو انه تعمد ان يتأخر قليلاً ليفسح لى المجال للإنتهاء من عملي.

 وما أن تقابلنا حتى اعاد الإعتذار عن حضوره فى وقت عملى ، وبعد عبارات الترحيب، أخبرني وهو يضحك بأنه جاءني ليستشيرنى فى امر صديقٍ له، فرأيت بعين الطبيب النفسى أنه ما يقصد إلا نفسه ، فداعبته بأنه سيُنافسنى فى عملى ، وكانت ضحكاته غير طبيعية كأنه يُخفى وراءها هماً وألماً ثقيلاً.

 وقبل ان أستمع إليه قدمت له مشروباً ، وإضطررتُ إلى ان أضع له فى مَشروبَهُ دواءاً مهدءاً مما أقدمه لمرضاىّ حتى يشغروا بالهدوء فيبوحوا بما يريدون البَوحَ به ، وبالفعل إستجاب صديقى للمهدأ وجاهد نفسه لئلا يخبرنى بأنه سيتكلم عن نفسه.

 بدأ يسرد قصة صاحبه المزيف، وكان بين الحين والحين يضحك ضحكات عاليةٍ، أعلم تمام العلم بأنه بضحكاته يُحاول ان يُخفى ما يشعر به، حتى كادت دموعه أن تقفز من عينيه، وكان يجاهد نفسه فى إخفاء ما يكتنفه من حزنٍ وألم، وكاد أن يخطئ حين سألنى ماذا أفعل، ثم يُعدل حديثه بأن صديقه يقول ذلك.

 وظللتُ صامتاً منصتاً إنصاتً تاماً، وأخبرنى بأن صديقه شكى له أنه يشعر بالغُربة فى بيته، وانه يشعر انه أصبح منقسماً نصفين، كالذى يقولون عليه ذو الوجهين ، فتعاملاته أمام الناس بشكلٍ يختلف تماماً عما يكون عليه بينه وبينهم.

 صمت قليلاً ، كأنه ينتظر منى سؤالاً ، فسألته أبينه وبين اولاده شيئا أم بينه وبين زوجته ، فأومأ برأسهِ بالإيجاب وهو يبتسم ويشير بأصبعين ، أى أنه يقصد زوجته ، وأن بينه وبين زوجته جِداراً عالياً.

وأصبح الصمت بينهما كما يقولون مُطّبق ، وأنها لا تريد ان تبذل أى جُهدٍ للتقرب إليه ، رغم أنه لا يتأخر عن تلبية أىٍ مِن مطالبها، فى نطاق أعمال البيت، ولكنه حين يُلبى لها طلباً، يقول بينه وبين نفسه أن من يفعله ليس حباً فيها.

 وكاد صديقى ان ينفجر حزناً ، فقد رأيت إحمرار عيناه ، وكأن خاجله بركان، وحاول كبت الدموع التى تتوسل أن تنهمر ، فإبتسم إبتسامةً اعرفها جيداً فى وجوه مرضاىّ،

 فإستاذنته أن أذهب لإحضار مشروبٍ أخر وداعبته بأننى اشعر بجفافٍ فى حقى ، وتعمدت ان أفسح له من الوقت ليُنَفِس عن نفسه ، وراقبته دون أن يلاحظ.

 وبالفعل فقد أطلق العنان لعينيه أن تسكب ما بها من دموع ، وعدت إليه بعد ان إستعاد رِباطةَ جَأشِهِ ، وأشرت له أن يُكمل حديثه.

إبتسم وهو يُكمل قصة صديقهِ الوهمى ، هل يصبح بمعاملته منافقاً ومراءياً وماذا يفعل ليخفف عن نفسه ، وطالبنى أن أُجيبه كطبيبٍ نَفسى ليجيب صديقه ، فما كان منى إلا أن حاولت التهرُبَ من سؤاله

و لأننى أعلم تمام العلم بأنه يقصد نفسه، ولا أريد أن أخسره كصديق فأجبته بأننى اريد رؤية صديقه وزوجته ، ومداعبةً منى أخبرته بأننى لن أحصل من صديقه على مبلغ الكشف، وذلك إكراماً له.

وما توقعته كان ، فقد تلعثم لحظة وهو يُخبرُنى بأنه صديقه قد سافر ، وأنه ينتظر منه إتصالاً للرد على سؤاله ، فأجبته بأن على صديقه حيت يعود أن يحاول إذابة ما بينه وبين زوجته ، وأن يتعلم أن يتجاهل ما يعكر صفو حياته ، وان يبتسم دائماً ، فالإبتسامةُ كفيلةً بأن تعالج أمراض النفس.

إستأذن صديقى فى الإنصراف وهو غير مقتنعٍ بإجابتى ، ولم أستطع أن اواجهه بأنه يقصد نفسه ، ولم يكن فى وسعى إلا أن اقوم بإمساك العصا من منتصفها كما يقولون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock