
الأمن البيئي في مصر بين الواقع والحلول الجذرية
الأمن البيئي في مصر بين الواقع والحلول الجذرية
بقلم: المستشارة إسراء أسامة الطماوي
مستشار التنمية المستدامة وخبير إدارة الأزمات
“الأمن القومي البيئي لم يعد ترفًا فكريًا، بل أولوية وجودية.”
لنناقش اليوم قضية هامة جدا
غرق الإسكندرية: بين تحذيرات المناخ وأمل منخفض القطارة.
مناخ متغيّر، وساحل مهدد:
في الوقت الذي يشهد فيه العالم موجات متطرفة من التغير المناخي، يبدو البحر المتوسط في طريقه إلى أن يصبح لاعبًا رئيسيًا في أزمة بيئية تهدد واحدة من أعرق المدن الساحلية في الشرق الأوسط — مدينة الإسكندرية.
تؤكد تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) أن متوسط منسوب البحر قد يرتفع بمقدار يتراوح بين 60 إلى 110 سم بحلول عام 2100( او قبل ذلك ) وهو ما يعني ببساطة: غرق محتمل لأجزاء واسعة من دلتا النيل.
ومع تآكل السواحل الشمالية، وارتفاع درجات الملوحة، وتسرّب المياه المالحة إلى التربة الزراعية، تتجاوز القضية مجرد “أزمة بيئية”، لتصبح تهديدًا اقتصاديًا، اجتماعيًا، وسكانيًا.
أعاد بعض الخبراء والمهندسين طرح مشروع قديم، طموح، ومثير للجدل: منخفض القطارة.
منخفض القطارة: حل عبقري أم مغامرة بيئية؟
يقوم المشروع على توجيه مياه البحر المتوسط عبر قناة أو نفق إلى منخفض القطارة في الصحراء الغربية — حيث يقع هذا المنخفض أسفل سطح البحر بـ133 مترًا. وعند ملئه بمياه البحر، تنشأ بحيرة صناعية هائلة، يمكن أن تولّد طاقة مائية ضخمة وتخفف ضغط المياه على الشواطئ الشمالية.
لكن، هل هذا المشروع قابل للتنفيذ فعلاً؟
للاجابة على هذا التساؤل يجب النظر إلى عنصرين أساسيين
قابلية تنفيذه من الناحية الهندسية والبيئية…
فمن الناحية الهندسية المشروع ممكن. وقد طُرحت تصاميم له منذ أكثر من قرن.
يعتمد على فرق المنسوب لتوليد الطاقة، ويخلق بحيرة ضخمة تمتص جزءًا من الزحف البحري.
أما من الناحية البيئية فهناك مخاوف من تلوّث المياه الجوفية، وتغيّر المناخ المحلي نتيجة التبخر العالي.
إدخال كتلة مائية بهذا الحجم إلى بيئة صحراوية قد يؤدي إلى فقدان تنوع بيولوجي محلي.
ولكن التقييم البيئي الشامل ضروريا قبل البدء
“EIA is not a paperwork requirement — it is the safeguard of future generations.”
ما هو التقييم البيئي الشامل؟
Environmental Impact Assessment – EIA
أو ما يُعرف باللغة العربية بـ “التقييم البيئي الاستراتيجي أو الشامل هو عملية علمية ومنهجية تُجرى قبل تنفيذ أي مشروع، تهدف إلى:
تحديد وتقييم وتحليل الأثر البيئي المحتمل للمشروع على البيئة المحيطة (سواء كانت آثار سلبية أو إيجابية)، ثم اقتراح حلول للحد من الأضرار قبل البدء في التنفيذ.
ما الذي يشمله التقييم البيئي (EIA)؟
1. تحليل الوضع البيئي الحالي:
نوع التربة والمياه والهواء
الحياة النباتية والحيوانية
السكان والمجتمع
2. تحديد التأثيرات المحتملة للمشروع:
هل سيؤثر على جودة المياه أو الهواء؟
هل هناك احتمالية لانقراض أنواع حية؟
هل يؤثر على صحة الناس أو الأمن الغذائي؟
هل يسبب تغيرات مناخية موضعية؟
3. تقدير حجم ونطاق الضرر:
هل التأثير قصير أم طويل المدى؟
محلي أم إقليمي أم دولي؟
قابل للعلاج أم دائم؟
4. اقتراح بدائل وحلول تخفيفية:
تغيير تصميم المشروع
تقليل الانبعاثات أو المياه المستخدمة
إنشاء مناطق عازلة
تعويض السكان المتضررين
5. خطة المتابعة والرصد Monitoring Plan:
كيف نتابع الوضع بعد التنفيذ؟
ما مؤشرات الإنذار المبكر؟
من الجهة المسؤولة عن المتابعة.
لذا بمشروع منخفض القطارة، سيكون التركيز على هذه الاحتمالات خلال التقييم
هل ملوحة البحر تتسبب في تلوث الخزان الجوفي؟
هل للمشروع تأثيرا مباشرا على كائنات نادرة في الصحراء؟
هل سينتج عن أعمال الحفر غازات ضارة؟
مدى تأثر القرى أو التجمعات السكانية المجاورة ؟
هل سيؤثر جماليا أو يغير طبيعة المكان؟ وما هي البدائل؟
هذا التقييم الزامي في أغلب دول العالم، فلا يُسمح ببدء مشاريع كبيرة (سدود، مدن، مصانع، أنفاق…) إلا بعد تقديم تقرير EIA معتمد إلى السلطات البيئية (في جمهورية مصر العربية الجهة المختصة هي جهاز شؤون البيئة).
…
تشير تقديرات أولية إلى أن تنفيذ المشروع على مراحل قد يتطلب ما يفوق 100 مليار جنيه مصري، ما بين أعمال الحفر، البنية التحتية، وحدات التحلية، وشبكات المراقبة.
في المقابل، فإن كلفة الكارثة المحتملة — من نزوح ملايين السكان، وتدمير الأراضي الزراعية، وخسارة منشآت سياحية وصناعية — تفوق هذا الرقم بكثير.
بمعنى آخر: الوقاية اليوم أرخص من المعالجة غدًا.
ولكن علينا مواجهة الواقع والاستعداد او دعونا نقول (خطة الطوارئ)
حتى مع التفكير في حلول جذرية طويلة المدى، لا يمكن إغفال ضرورة وجود خطة طوارئ فورية تشمل:
تقوية الحواجز الساحلية والردم الوقائي.
بناء مصدات أمواج طبيعية وزراعة أشجار مانجروف.
إنشاء نظام إنذار مبكر للرصد الجغرافي والمناخي.
تدريب المجتمعات المحلية على سيناريوهات الإخلاء وإدارة الكوارث.
كل محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي تكرر سؤالا واحدا:
هل علينا أن نُخلي بعض المناطق الساحلية مستقبلًا؟
الواقع يشير إلى أن الإخلاء الشامل ليس حلًا عمليًا، بل سيكون خيارًا اضطراريًا في حالات الخطر المباشر. ما نحتاجه هو تحصين المدن الساحلية بمزيج من الهندسة والحوكمة والتخطيط البيئي.
ما خطة الطوارئ الممكنة حاليًا؟
1. رصد دائم لمنسوب البحر والتربة
(عن طريق الأقمار الصناعية + محطات قياس ساحلية)
2. تقوية الحواجز الساحلية (الأسوار والردم)
خاصة على طول كورنيش الإسكندرية ومناطق كفر الدوار ورشيد.
3. تحديد مناطق الإخلاء السريع
ووضع خطط انتقال للمواطنين في حال إعلان الطوارئ.
4. توعية السكان المحليين بخطوات الطوارئ
5. خطة إعلامية للسيطرة على الشائعات وقت الأزمات
….
اما السؤال المطروح حاليا هل الحل مغادرة المناطق الساحلية؟
لا يُعتبر الحل الأول هو الإخلاء الكلي.
بينما يجب التوجه لدراسة البدائل مثل :
إعادة تصميم المباني الساحلية لتكون أكثر مقاومة
زراعة مصدات رياح وأشجار مانجروف لتثبيت الشواطئ
تحويل بعض المناطق إلى مراكز إخلاء مؤقتة
لكن إذا ارتفع منسوب البحر بمتر واحد (كما توقعت بعض السيناريوهات)، قد يصبح إجلاء جزئي مؤقت أمرًا لا مفر منه في بعض المناطق.
“الكوارث المناخية لا تفرق بين غني وفقير، بين أثر تاريخي وأرض طينية، لكنها تميّز جيدًا بين من يستعد… ومن يتجاهل.”
أزمة الإسكندرية ليست مجرد أزمة مياه، بل اختبار حقيقي لقدرة الدولة على الاستجابة المبكرة، واتخاذ قرارات استراتيجية جريئة، وتطبيق مبادئ التنمية المستدامة على أرض الواقع.
فلنكن على قدر المسؤولية، قبل أن يأتي الطوفان.
حفظ الله مِصر..
الأمن البيئي في مصر بين الواقع والحلول الجذرية
استشارة بقلم
المستشارة / إسراء اسامه الطماوي
مستشار التنمية المستدامة وخبير إدارة الازمات





